أخبار الساعةأقلام السيتي

الرواية التاريخية والتاريخ

د. عزيز زروقي

على الرغم من حب الإنسان الشديد للماضي بكل ما فيه من تفاصيل وخبرات والذي هو ملك التاريخ ، والتاريخ حافظه، نجده غالبا ما يعزف عن قراءة كتب التاريخ، ويمل الحياة بين صفحات هذه المراجع المملوءة بالحشود الهائلة من الأحداث المملة والأخبار المتشابهة. لاسيما أن أكثر المؤرخين قد يجيدون جمع الأخبار ومقارنتها ورصدها وتحليلها، إلا أنهم يقومون بهذا في إطار علمي جاف، ويعرضونها عرضا قد يكون مملا يغري الناس بالزهد في كتب التاريخ والوقوف على حوادثه وأخباره. والعنصر الأدبي لازم في كتابة التاريخ، والشعور بالحاجة إليه، هو الذي ساعد على ميلاد الرواية التاريخية.

يبعث التاريخ في النفس البشرية التوق للماضي وتقليده في جوانب الخير والحذر من الانزلاق في ثغرات البشرية التليدة، والتاريخ حين يصبح بأحداثه وشخصيّاته مادة للرواية، فإنه يصير بعثا كاملا للماضي، يرتبط فيه الحاضر بالماضي الخالد في رؤية فنية شاملة، فيها من الفن روعة الخيال وجاذبية الذكرى، ومن التاريخ صدق الحقيقة. ولعل هذا يفسر جاذبية الرواية التاريخية التي تحاول أن ترد الحاضر لشيء كان موجودا فعلا؛ فالقارئ وهو يقرأ الرواية التاريخية يشعر أن ما يقرؤه ليس من صنع خيال المؤلف، فالخيال وظيفته هنا هو تشكيل الصورة التي كانت عليها الحياة في العهد القديم، ورسمها دون تحريف أو زيادة أو نقصان.

يصنع الروائي  بمخيلته حياة أجمل، موازية لواقع قد كان يراه مناسبا، ولا يكتفى بمحاكمة وتجريم الماضي، ومحاكمة الحاضر، بل إن الرواية تجعل الكاتب يستشرف ألوانا مغايرة يصنعها كي يلون بها الغد[1]. فالتاريخ في صورته المعروفة ما هو إلا حقائق مجردة لها وجود محدد، وقد أعدت سلفا وبمجرد دخول هذه الحقائق التاريخية في إطار العمل الأدبي يتحول العنصر التاريخي إلى عنصر أدبي. وفيما يتعلق بالتزام الروائي بحقائق التاريخ، يقول (جورج لوكاش)  Georg Lukács: “يجب أن تكون الرواية أمينة للتاريخ ، بالرغم من بطلها المبدع وحبكتها المتخيلة”[2].

الروائي في استلهامه للتاريخ يعيد ترتيب الأشياء وتوزيع الأدوار كما يريد، تأصيلا لرؤيته التي يقيم بناءها في معماره الروائي الجديد. وفي انتخابه للأحداث التاريخية التي تشد نسيج النص ببنيته العميقة والشكلية المتماهيتين يقدر المسافات، ويشكل الألوان، ويصور الأماكن والحالات، ويركب الحوارات، ويبني المشاهد، ويتعمق في الأمزجة، ويفسر المواقف، ويصوغ ردود الفعل، وينزل إلى حيث تمفصلات المجتمع في مكان وزمان معينين، ليخلق بعد ذلك نصا إبداعيا نواته وحدة التجربة الإنسانية، بمعنى أن ثمة أشياء تتجاوز دلالات تشير إلى طبيعة الزمان والمكان وما يجري فيهما من أحداث كما قال عنها (غاستون باشالر) Gaston Bachelard : ” في أعماق ركن يتذكر الحالم كل الأشياء التي تتماثل مع الوحدة، أشياء هي ذكريات الوحدة، والتي تنكشف هويتها، ولكنها منسية ومهجورة في الأركان”[3].

هنا يكون الروائي أمام أمرين: الأول هو ضرورة الالتزام بحقائق التاريخ الكبرى دونما تغيير أو تزييف ،أما الثاني: جواز استيعاب الرواية التاريخية للبطل الروائي غير الحقيقي، والحبكة الفنية المتخيلة على خلفية صيرورة الأحداث التاريخية الحقيقية.

 فهل وجود بعض الأحداث التاريخية في الرواية يكفي أن نقول بأنها روايات تاريخية؟

إن التعامل مع التاريخ من حيث هو مكون روائي لا يعني اعتماد التاريخ بديلا للتخيل، وكأن الرواية التاريخية بتكامل مستويات البناء والتجنس لا تكمن في طبيعة الأحداث التي تعرض لها، بل في الطريقة التي تقدمها بها سؤال العلاقة بين الرواية والتاريخ، هو سؤال علاقة يتم في ضوئها تمثل البؤرة السردية: الشخصية، الزمن، الفضاء، الحكي…. ولذلك، لا ترتبط الرواية بالتاريخ لتعيد التعبير السمة السردية للكتابة الروائية والتاريخية وتدقيق مجال الاشتغال والتفاعل والتنويع عما قاله التاريخ بلغة أخرى، واعتماد الرواية التاريخية على الحدث التاريخي لا يعني أنها تعيد كتابة التاريخ بطريقة روائية فحسب، بل قد ترتبط الرواية بالتاريخ للتعبير عما لا يقوله التاريخ. لا تعيد الرواية استثمار التاريخ في إنتاجها للدلالة الروائية، بل تقدم توظيفات مختلفة في الفهم والقصد، لأنها تختار كيفية محددة في القول والتركيب وإنتاج التخيل، ولأنها تعبر أيضا عن الحاجة إلى الرواية، والحاجة لأن تكون تاريخية كذلك.

التاريخ ما هو إلا حقائق مجردة لوقائع تاريخية معينة سواء كان الأمر يتعلق بالحوادث أو بالشخصيات، بيد أن هذا التاريخ المجرد عندما يدخل بنية أساسية تعتمد عليها الرواية يأخذ شكلا جديدا، بحيث يصبح عنصرا فنيا من عناصر تكوين الرواية، فيخضع حينها لكاتب الرواية الذي يفسره وفقا لمزاجه الشخصي، لذا فإن “كتابة الرواية التاريخية محفوفة بالمزالق لأن الشخصيات في التاريخ لها وجود محدد، أو بعبارة أخرى هي معدة سلفا، وكذلك الأحداث التاريخية والمكان والزمان وغيرها، وعلى الفنان أن يصوغها صياغة جديدة لا أن ينقلها كما هي في التاريخ، وهذا العمل هو الذي يجعل اتخاذ التاريخ مادة للرواية عملا مشروعا “[4]. يشترط في هذه الصياغة للمادة التاريخية أن تحافظ على كنهها وواقعيتها التاريخية كما هي، فيؤذن للروائي أن يحذف أو يزيد على الحدث التاريخي، لكن ضمن ضوابط المحافظة على جوهر المادة التاريخية المعاد صياغتها في العمل الأدبي.

إذا كانت الرواية بشكل عام هي تاريخ متخيّل داخل التاريخ الموضوعي[5]، فإن لنا أن نلتمس الخيط الذي يشد الرواية إلى التاريخ عبر اشتراكهما بالعناصر الرئيسية: الإنسان والزمان والمكان، وأكثر من ذلك اشتراكهما بالقصة أو الطابع القصصي. الرواية التاريخية تشترك مع الرواية الأدبية بصورة عامة  في وجود بنية تاريخيّة تتأسس عليها، بمعنى وجود فضاء وأحداث وشخوص كما في الواقع، إلا أن الرواية التاريخية تنطلق من أحداث وذوات حقيقية مختلفة في الغالب، وتشكل جزءا من تاريخنا وماضينا الممتد حتى اللحظة الراهنة أو القادمة، تضيئه أحداث تحييها شخصيات إنسانية فنية، حية وكاملة في سبيل التقاط كل ما هو إنساني وأصيل وصادق، وهي إذ ذاك تستحضر نظرة علوم الاجتماع والتاريخ والفلسفة وعلم النفس، لتدرس من خلالها أعماق النفس البشرية وكينونتها التاريخية والاجتماعية.

رغم الحدود التي تظل قائمة بين الرواية والتاريخ، فإن هناك الكثير من العناصر التي تشدهما معا إلى أصل تعبيري واحد يجد حده الأمثل في السرد. ولا يحتاج المرء إلى أن يذهب بعيدا للتدليل على علاقة التداخل بين الرواية والتاريخ، حيث كتب التاريخ وخاصة في تراثنا العربي والإسلامي تحفل بمفردات هي جزء من طبيعة الرواية مثل (روى، حكي، أخبرني، ذكر، قال…). يشترك التاريخ إذن مع الرواية في كون كل منهما خطابا. وهذا الخطاب في الحالتين معا مرتبط بالماضي يعلن فيه المؤرخ أنه مجرد ناقل موضوعي لما وقع، ويعلن الروائي أنه راو لأحداث جرت. ومثلما يستدعي التاريخ الرواية في الكثير من الأحيان، نجد بأن الرواية هي التي استدعت التاريخ لإيجاد مقروئية لأحداثها. ويتجلى ذلك فيما يصطلح عليه (بفراغات التاريخ)، أي حينما لا تتوفر المصادر التاريخية اللازمة أثناء البحث.

التاريخ والفن الروائي تجمعهما علاقة طبيعية، فالمؤرخ حين يعمد إلى تصوير التاريخ وتسجيل أحداثه عليه أن يلزم شكلا من الأشكال السردية الثلاثة، وهي: الحوليات والأخبار والتاريخ. ومن هنا يتضح أن مصطلحي الحوليات والأخبار مشتقان من فكرة الزمن، فهما سجل أو قائمة أحداث مرئية مرتبة ترتيبا زمنيا، ولا يظهر منها المحور الاجتماعي الذي يصور أحوال الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أي دون احتوائهما للعنصر القصصي. في حين المصطلح الثالث، التاريخ فهو يعني قصة وتاريخا في آن واحد أي أن التاريخ هو احتواء للأحداث في قالب قصصي، يعنى المؤرخ فيه بذكر الأنظمة الاجتماعية والسياسية السائدة من حوله في سرده لأحداث التاريخ يقرب عمله هذا من عمل روائي.

إن الاهتمام بالإنسان يقع في صميم الوظائف والأدوار التي نهض بها الأدب، وعلى هذا الأساس يفهم أثره القوي في الذاكرة الجماعية للقراء في كل عصر. لا يتجلى هذا الاعتناء فقط من الجدوى التي تمتع بها الأدب عبر التاريخ منذ أن تحمل الشعراء والكتاب والفلاسفة عبء فتح آفاق جديدة أمام الوعي الإنساني، بتحريره من التصورات الشمولية والأفكار المتصلبة، من خلال استدعاء التجارب الإنسانية المختلفة التي تَنضح بالقيم الإنسانية الإيجابية؛ كالحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، التي ما فتئ الناس يكافحون من أجلها كي يتخلصوا من شروط الضرورة، وإنما يتجلى كذلك من كون هذا الشكل التعبيري يتميز بأن له وجودا أقدم بكثير من العلوم الإنسانية. لقد نهض الأدب بمجموعة كاملة من الوظائف والأدوار لا تتعلق بإبداع الأشكال فحسب، بل ترتبط كذلك برهانات المعرفة: نقل الذاكرة الجماعية، وإظهار وحدة الثقافة، ووصف تحولات العالم[6].

 ويكفي للتعرف على هذه الوظائف، قراءة المحكيات والسرود القديمة منذ “الإلياذة” و”الأوديسة” (لهوميروس)  Homère، ومحكيات العصر الوسيط الإسلامي، وأدب الأزمنة الحديثة، وصولا إلى الزمن الراهن، ففي كل هذه المحطات من التاريخ البشري، تميز الأدب، قياسا على الخطابات الأخرى، بالقدرة الكبيرة على النفاذ إلى ظلامية اللحظة المعيشة، والتسلل إلى الأمكنة حيث يتعذر التحقيق والاستجواب والملاحظة، لتشخيص الغرابة المقلقة التي تستبد بالفرد وهو يقود حياته بحثا عن أصالة، تلك الغرابة التي يتعذر على الخطابات الأخرى سبر غورها. ولا ريب أن قدرة الأدب على بلورة معرفة مميزة تتوخى الكشف والتعرية ومقاومة الخطابات المرة، هي ما جعل الدراسات المعاصرة التي تتناول العلاقة بين التاريخ و الأدب تولي العناصر الجمالية في كتابة التاريخ اهتماما كبيرا[7].

لم تعد هذه الدراسات تقتنع بالمنظورات السابقة التي كانت تستند في تحديدها للتاريخ على الوقائع، وتصدر عن رؤية تراتبية تبوئ التاريخ موقعا متعاليا باعتباره علم الحقيقة قياسا على الأعمال التخيلية أو الخطابات الأخرى. فمع (بول ريكور) Paul Ricœur   2005ـ 1913م، و(هايدن وايت)  Hayden White) 2018–1928م، و(إيفان جابلونكا) Ivan Jablonk 1973م، و(ديفيد كار)  David Carr 2015–1956 م وآخرين…. نستشف أن التعارض بين التاريخ والأدب من حيث المفهوم والوظيفة، ليس سوى تعارض على مستوى الظاهر. إن أي تفكير في التاريخ على أساس أنه بحث، وفي المؤرخ باعتباره باحثا، سيقود بالضرورة إلى تلمس حقيقة مفادها أن الأدب والتاريخ يسعيان معا إلى تشكيل صورة لواقع مخلوق من الكلمات[8].

 من هنا، فالأدب ليس مجرد خزان أو مصدر، وإنما هو حقل أساس للمؤرخ، لأنه يستطيع أن يقول الشيء الكثير عن الماضي. ومن هنا يتضح لنا وجود ارتباط فطري بين التاريخ والفن الروائي، إذ إن كليهما يتضمن سرد الأحداث بشكل قصصي. ولوجود هذه العلاقة بين الفن والتاريخ اتجه الرواة إلى قراءة هذا المصدر الثري، وهضم صوره وصياغة موضوعاته صياغة حية نابضة لتغدو وسيلة للتعبير من خلالها عن أنفسهم ذواتا تحس وقلوبا تنبض.

[1]ـ محمد الغربى عمران، ما يشبه التجربة ّ”علامات في النقد”، الجزء 69، ( جدة:  المجلد 18، 2009م)، 1048.

[2]لوكاش جورج، الرواية التاريخية، 215.

[3]ـ غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، (بيروت: المؤسسة العامة للدراسات والنشر والتوزيع، 1984م)، 139.

[4]ـعبد الحميد القط، بناء الرواية في الأدب المصري الحديث، 33.

[5]ـ محمود أمين العالم، “الرواية بين زمنيتها وزمانها”، مجلة فصول، العدد 1، المجلد 12، القاهرة، (1993م)، 13.

[6]ـJean–Louis Fabiani, «Le roman, une science humaine?» Sciences Humaines, no. 321 (Janvier 2020), 40–41.

[7]ـIvan Jablonka, L’Histoire est une littérature contemporaine: Manifeste pour les sciences sociales (Paris: seuil, 2014), 3.

[8]ـIvan Jablonka, L’Histoire est une littérature contemporaine: Manifeste pour les sciences sociales, Op. Cit, 11.

اظهر المزيد

جرسيف سيتي

موقع إخباري مستقل، يهتم بالشأن المحلي والوطني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى