السيتي

أخلاقيات التواصل وثقافة الحوار

 “رغم أني لا أتفق معك، فإني مستعد أن أضحي بنفسي والتضامن معك كي تعبر عن رأيك بكل حرية…”

هكذا عبر أحد أقطاب فلسفة الأنوار، المفكر الفرنسي “فولتير” عن مبدأ حرية التعبير وسط تعدد الأصوات والآراء وتضارب المواقف، معتبرا أن الإختلاف في الرأي ليس بشذوذ في التفكير، بل قيمة إضافية جديدة يتولد عنها الحوار الجاد والتواصل الهادف المفضيين إلى الحقيقة المنشودة…فباختلاف رأيي ورأيك نهتدي جميعا إلى رأي ثالث يشكل أرضية توافق خصبة لاستثمار الأفكار الخلاقة والمشاريع المثمرة.

لقد أبدع الساسة نظام المعارضة في المجال السياسي لتصحيح اختلالات أداء الحكومات بعد نقاشات مطولة غالبا ما تؤدي الى توافقات إيجابية ترضي إرادة الطرفين. وفي الآداب كذلك ، يقوم النقاد بالوقوف على مكامن الحسن والضعف في الأجناس الأدبية فيدعون أصحابها إلى ضرورة ترميم الصياغات أو انتقاء المعاجم الملائمة…. وفي المعامل والمصانع تقوم النقابات باستعادة التوازن بين أرباب العمل والطبقة العاملة عبر مناقشات مارطونية تروم تجويد علاقات العمل…..إلخ

فمن خلال هذه الصور التوضيحية ، يتبين أن آفاق الانتظارات المتوقعة والنتائج المرجوة لا تأتي بتلقائية وبمجانية دون عرق وعناء، بل تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، حيث يتم دائما البحث عن التوازنات وسط الاختلافات والتناقضات والتقاطعات، وإلا يصير الرأي مستبدا والنتيجة غير منصفة والحوار منعدما والتواصل مختلا و معطلا.
أصبح الإيمان بالاختلاف – بعد عصور هيمنة الرأي المستبد – من شيم وطباع الأمم المتحضرة ، وتدبير الاختلاف أضحى من آليات التواصل الجديدة المعتمدة في استجلاء الحقائق وتجاوز الخلافات الهدامة. فالتعصب للرأي والدفاع عنه بالتلاسن العقيم والتطاحن المجاني وركوب لغة التلميح والتجريح لمحاولة استصغار الآخر، ليس من الذكاء والحكمة في شيء، ويبقى الاحتكام إلى منطق التواصل وحسن الإصغاء ضروريا لتعديل كفة الميزان في تعاملنا مع المحيط الثقافي والاجتماعي والسياسي، مادامت أعمالنا وأنشطتنا وبرامجنا وأفكارنا مطبوعة بالنسبية ، ولا يمكن لها أن تنشد الكمال الأبدي أو تدعي النضج السرمدي.

إن الحاسوب المتنقل وربطة العنق واللحية الطويلة ورزمة الجرائد…. لا تعبر بما فيه الكفاية عن قيمة الشخص وخلقه ومستوى تفكيره وأفق وعيه وسقف ثقافته ، بل يجب معاينته وهو يرد ويعقب ويحاور ويناقش ويعامل الآخر لمعرفة طبيعة شخصيته ونوع معدنه إن كان تبرا نفيسا أو مجرد تراب.

وهكذا، نجد أن المقاربات الحديثة في التسيير الحكيم والتدبير السديد والتعامل المعقلن أصبحت تقتضي إثارة النقاش وافتعال سوء الفهم والتفاهم عمدا وعنوة، وذلك بغية كشف النواقص في المشاريع وسد ثغراتها ، وتنقيح مسودة القرارات، وتقويم الإعوجاجات لضمان النجاح في أي عمل ثقافي أو إعلامي أو جمعوي أو حزبي أو إداري أو شخصي حتى
فمن المفروض إذن، أن نشكر من يشكل مصدر اختلاف معنا، لأنه يمنحنا فرصة استدراك الاختلالات قبل الحصاد النهائي، ويفتح لنا الأفق واسعا لمجابهة الكمائن المستترة… فبدل أن نمطره بشآبيب الحقد ونواجهه بلغة الرصيف السادية، يجدر بنا أن نجسر معه أواصر عملية وعلاقات ميدانية قائمة على التقدير المتبادل والإلتزام بآداب التواصل وأخلاقيات التعامل الإنساني تماما كما تقتضيه الأعراف والتقاليد في المناقشات العامة، وإلا فالصمت حكمة، في انتظار مراجعة الذات والاهتداء إلى نهج الصواب. هذا، إن كانت تركيبتنا النفسية ومرجعيتنا التربوية والثقافية قابلة لاستيعاب فكر الآخر واحتضان حضور الآخر دون انفراد بالرأي أو ادعاء النبوة في كل شيء. أما إذا كنا نحمل هواتف نقالة في دواخلنا تملي علينا وصفات تحقيق أغراض شخصية ومصالح ضيقة على حساب اعتبارات أخرى دون مراعاة حقيقية لشعاراتنا ومبادئنا، فهذه مصيبة أخرى….

وللتوضيح أكثر، فهذا المقال ليس بعملية تقطير للشمع الساخن في أحداق أحد، إنما هو نمط تفكير يجسد وعيا خاصا متواضعا، وفلسفة تعامل تترجم رأيا شخصيا يقبل التعايش السلمي مع رأي ثان وثالث ورابع… شريطة أن تكون مرامي الأهداف مشتركة وعامة.

اظهر المزيد

جرسيف سيتي

موقع إخباري مستقل، يهتم بالشأن المحلي والوطني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى